التناسق البياني لكلمات القرآن الكريم
الأحد يناير 23, 2011 1:05 am
بقلم المهندس عبد الدائم الكحيل
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه
مجموعة من الفتوحات التي منّ الله بها علي في إعجاز القرآن الكريم
البياني، وفكرة هذا البحث تقوم على أن كل كلمة من كلمات القرآن تتكرر في
القرآن كله بنظام بديع متناسق ومُحكم. والأمثلة الآتية التي سنراها تؤكد
هذه الحقيقة.
هذا التناسق العجيب يبرهن على استحالة الإتيان بمثل هذا
القرآن الذي قال الله عنه: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ
عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ
وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الإسراء: 17/88).
كما
يبرهن على أن القرآن لو كان كلام بشر لما رأينا فيه مثل هذه التناسقات
والتدرجات اللغوية والبيانية، وهذا ما أمرنا الله تعالى أن نتدبره فقال:
(أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ
اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) (النساء: 4/82).
فكرة عن التناسق البياني
يمكن شرح فكرة النظام البياني لسور القرآن, من خلال المثال الآتي:
يعلمنا
الله تعالى أن نتوكل عليه فهو يكفي وهو حسبُنا, نستمع إلى هذا الأمر
الإلهي: حَسْبِيَ اللَّهُ هذا النداء تكرر في كامل القرآن في سورتين,
لنبحث عن كلمة (حَسْبِيَ) في القرآن:
1ـ (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ
حَسْبِيَ اللّه ُلا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ
رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة: 9/129].
2ـ (وَلَئِن سَأَلْتَهُم
مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ
أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ
بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ
هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّه ُعَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ
الْمُتَوَكِّلُونَ) [الزمر: 39/38].
إذن كلمة (حَسْبِيَ) دائماً
ترافقها كلمة (اللَّهُ) تعالى, أي (حَسْبِيَ اللَّهُ) وهل يوجد غير الله
لنلتجئ إليه وندعوَه؟ وكما نلاحظ كلتا الآيتين فيهما أمر آخر هو التوكل
على الله تعالى, وليؤكد لنا أن التوكل لا يكون إلا على الله. إذن ارتبط
الالتجاء إلى الله بالتوكل على الله! فمن أراد أن يلتجئ إلى الله تعالى
فعليه أن يتوكل على الله، فلا فائدة من التجاءٍ لا توكل معه.
كما أن
الآية الأولى جاء التوكل فيها على لسان النبي الكريم عليه صلوات الله
وسلامه، وهذا تشريفاً لمقامه ومنزلته عند الله عز وجل. بينما في الآية
الثانية جاء التوكل على لسان المؤمنين، وفي هذا إشارة لطيفة إلى ضرورة أن
يبدأ الانسان بنفسه ثم بالآخرين، وهذا أسلوب عظيم في التربية. ولذلك جاء
التدرج البياني للآيتين مبتدئاً بالرسول الأعظم الذي هو مثال ونموذج وقدوة
من أراد أن يتوكل على الله، ثم من بعده البشر هكذا:
1- عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ.
2- عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ.
التدرج العقائدي
لنتأمل
إحدى كلمات القرآن ونظام تكرارها بيانياً وعددياً. ونجري بحثاً عن كلمة
(حقَّت) في القرآن فنجد هذه الكلمة تكررت 5 مرات في كل القرآن في 4 سور:
1 ـ (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) [يونس: 15/33].
2ـ (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ) [يونس: 10/96].
3ـ
(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ
وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ
حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [النحل: 16/36].
4ـ (وَسِيقَ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا
فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ
رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ
لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ
الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [الزمر: 39/71].
5ـ (وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) [غافر: 40/6].
دائماً
استخدمت كلمة (حَقَّتْ) في القرآن للتعبير عن حقيقة واحدة وهي أن الذين
فسقوا وكفروا... لا يؤمنون... ضالون كافرون أصحاب النار. هذه الوحدة
اللغوية في كامل القرآن لتدلُّ على أن منزل القرآن واحد لا شريك له. وهذا
التناسق البياني هو دليل على أن القرآن كتاب لا يمكن تقليده أو الإتيان
ولو بجزء أو سورة منه.
وردت كلمة (حقَّت) في 5 آيات تدرجت كما يلي:
1ـ
في الآية الأولى الحديث عن (الذين فسقوا) فهؤلاء (حقّت عليهم كلمة ربك)،
وكما نعلم أول خطوة على طريق جهنم تبدأ بالخروج (الفسق) عن أمر الله تعالى.
2ـ ثم في الآية الثانية جاء الحديث عن الذين (لا يؤمنون) وهذه هي المرحلة الثانية بعد الفسق ـ عدم الإيمان.
3ـ في الآية الثالثة تحدث الله عن أؤلئك الذين (حقّ عليهم الضلالة)، إذن عدم الإيمان يؤدي إلى الضلال.
4ـ
في الآية الرابعة كان الحديث عن (الكافرين) فالضلال يؤدي إلى الكفر
والإشراك بالله تعالى لذلك جاءت العبارة: (حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ
عَلَى الْكَافِرِينَ).
5ـ وأخيراً ختم الله هذه الآيات الخمسة بقوله:
(أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) وهذه هي النتيجة المنطقية لكل من يفسُق...
لا يؤمن... يضلّ.. يكفر... فمصيره إلى النار فهي تكفيه.
وتأمل أخي الحبيب هذا التدرج اللغوي لرحلة تنتهي بالنار والعياذ بالله تعالى:
فسقوا................ بداية الرحلة هي الفسق عن أمر الله تعالى.
لا يؤمنون........... بعد الفسق يأتي عدم الإيمان بالله تعالى.
الضلالة............ ثم يأتي الضلال والضياع.
كَلِمَةُ الْعَذَابِ ........ وتبدأ رحلة العذاب.
أَصْحَابُ النَّارِ....... والنتيجة المؤلمة لهذه المراحل هي النار!
ولكن
يبقى التساؤل: ما هي كلمة الله التي حقَّت على هؤلاء الكافرين؟ ألا يستطيع
الله تعالى أن يهديَ الناس جميعاً؟ إنني أتصور أن الضلال والهدى... الكفر
والإيمان.. الجنة والنار... كل هذه المفاهيم وغيرها لها نظام محسوب بدقة,
فالله تعالى يعلم ما يصنع وهو يسيِّر الكون بما فيه, فهل يعجز عن هداية
مخلوق؟
ولكن حكمة الله ومشيئته وقضاءه أعلى من مستوى تفكيرنا... ولكن
يمكنني أن أقول إن النظام الكوني والبشري ونظام الخلق والنظام القرآني
وغيرها لا يمكن أن تكون إلا بهذا الشكل الذي نراه, وغير هذه الصيغة لنظام
الخلق ستؤدي إلى خلل في الكون.
هكذا مشيئة الله...
قبل أن يخلق الله
الكون اختار الصيغة الأنسب للضلال والهدى، واقتضت مشيئة الله أن ينقسم
البشر بين مؤمن وكافر، لو شاء لهدى الناس جميعاً, ولو شاء لعذبهم
جميعاً... إنه يفعل ما يريد هو وليس نحن... لنتخيَّل حكمة الله في خلقه
نستعرض 3 آيات من القرآن حيث تكررت كلمة (نَشَأْ) لنرى التدرج البلاغي
والرقمي لتكرار هذه الكلمة عبر سور القرآن:
1ـ (إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) [الشعراء: 26/4].
2
ـ (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ
نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً
لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ) [سبأ: 34/9].
3 ـ (وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ) [يس: 36/43].
نظام الكلمات لغوياً
كلمة
(نَشَأْ) هي كلمة خاصة بالله تعالى، لم ترد إلا وقبلها (إنْ) وبعدها كلمة
تخصُّ الله وقدرته ومشيئته ليبيِّن لنا الله تعالى أن المشيئة كلها لله
وحده، وليس لنا نحن البشر من الأمر شيء.
1ـ بدأ الله تعالى الأولى
بالحديث عن الهدى فهو قادر على أن ينزل على هؤلاء المكذبين آية (معجزة) من
السماء فيجبرهم على الخضوع والإيمان قسراً, ولكن عدالة الله تعالى اقتضت
أن يعطيَهم حرية الاختيار لكي لا يظلم أحداً يوم القيامة.
2ـ ثم أتت
الآية الثانية بالتهديد بأن الله قادر على أن يخسف بهم الأرض أو يسقط
عليهم قطعاً ملتهبة من السماء ولكن رحمتُه تقتضي إمهالهم ليوم لا ريب فيه
حيث لا ينفعهم الندم.
3ـ وخُتمت هذه الآيات الثلاث بأن الله لو شاء لأغرقهم فلا منقذَ لهم غير الله تعالى.
نرى التدرج عبر الآيات الثلاثة:
من السماء (نُنَزِّلْ)...
إلى الأرض (نَخْسِفْ)...
إلى أعماق البحار (نُغْرِقْهُمْ)...
فهل نحن أمام برنامج بلاغي لكل كلمة من كلمات القرآن؟ إذن تنوعت أنواع العذاب :
الإحراق بأجسام ملتهبة من السماء.
ثم الخسف في الأرض .
ثم الإغراق في ظلمات البحار.
كلُّ شيء... يسبِّح بحمدِه
كيف
لا يسبح كل شيء بحمد الله تعالى وهو خالق كل شيء؟ الرعد يسبح بحمده... كل
شيء يسبح بحمده... يوم القيامة يدعونا الله فنستجيب بحمده... إنه الحي
الذي لايموت فسبِّح بحمده, لنبحث عن كلمة (بِحَمْدِهِ) التي نجدها مكررة 4
مرات في 3 سور من القرآن العظيم:
1ـ (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ
وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا
مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ)
[الرعد: 13/13].
2ـ (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ
وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ
وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً
غَفُوراً) [الإسراء: 17/44].
3ـ (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء: 17/52].
4ـ
(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ
وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً) [الفرقان: 25/58].
3 سور هي: الرعد 13ـ الإسراء 17ـ الفرقان 25, تكررت فيها كلمة (بِحَمْدِهِ).
النظام البلاغي
تنظيم
كلمات وآيات وسور القرآن وترتيبها لا يقتصر على دقة الكلمات والعبارات، بل
هنالك نظام بلاغي لتدرج هذه الكلمات عبر سور القرآن. ففي المثال السابق
نجد النظام التالي:
1ـ عرَّفَنا الله تعالى كيف يسبِّحُ الرعد بحمده والملائكة لأن هذه المخلوقات تمتثل أمر الله وتخافه ولا تعصيه، فهل نَعتَبِر؟
2ـ ثم قرر في الآية الثانية أن كل شيء يسبح بحمد الله تعالى... وللأسف كثير من الناس غافلون عن ذكر الله ولقائه وعذابه.
3ـ
ثم انتقلت الآية الثالثة لتتحدث عن المستقبل ـيوم القيامةـ عندما يبعثنا
الله بعد الموت فنستجيب بحمده, فإما إلى الجنة وإما إلى النار. وحتى نفوزَ
بالجنة.
4ـ تأتي الآية الرابعة بالأمر الإلهي (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ)،
ليعلمنا كيف نسبح ونمجِّد وننزِّه الله تعالى لنفوز برحمة الله ونعيمه
ومغفرته, إذن بعد 3 آيات تُقرِّر أن كل شيء يسبح بحمده تعالى... فهل تمتثل
أيها الإنسان أمر الله وتسبِّحه وتمجِّده؟ لذلك جاءت الآية الرابعة
لتأمرنا بالتسبيح لله تعالى.
كل شيء يسجد لله
إذا كان كل شيء يسبح
بحمد الله تعالى تعظيماً له. فهل تستكبر مخلوقات الله عدا الإنسان عن
السجود لخالقها؟ القرآن يخبرنا أن كل شيء في الوجود يسجد لله تعالى خوفاً
وتواضعاً وتذللاً لله تعالى , وعلى الرغم من ذلك يأبى كثير من الناس
الامتثال لأوامر خالقهم ورازقهم وممهلهم...
كلمة (يَسجُدُ) تكررت في كامل القرآن 3 مرات بالضبط في 3 سور :
1 ـ (وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) [الرعد : 13/15].
2
ـ (وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن
دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ) [النحل : 16/49].
3
ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن
فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ
وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ
عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ
اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) [ الحج :22/18].
هكذا عظمة كتاب الله تعالى... تتراءى أمامنا البلاغة الفائقة تتدرج من حيث المعنى :
1 ـ بدأت الآية الأولى بتقرير أن كل من في السماوات والأرض يسجد لله طوعاً وكرهاً , ليدلَّنا على أن الأمر لله وليس لمخلوقاته .
2 ـ في الآية الثانية تحدث الله تعالى عن الدواب التي نظنها لا تعقل ولا تسمع, ولكنها تسجد لله تعالى والملائكة أيضاً يسجدون لله .
3
ـ وأخيراً تحدثت الآية الثالثة والأخيرة أن كل من في السماوات ومن في
الأرض يسجد لله وعدَّد بعض مخلوقات الله: الشمس ـ القمر ـ النجوم ـ الجبال
ـ الشجر ـ الدواب..., ونلاحظ في هذه الآية كيف انتقل الله تعالى من صيغة
الإثبات إلى صيغة الاستفهام (أَلَمْ تَرَ) أي بعد كل هذه الآيات ألم يحنِ
الوقت لترى وتوقن أن كل شيء يسجد لله؟
من خلال الآيات الثلاث نلاحظ أن
كلمة (يَسْجُدُ) هي كلمة خاصة بالله تعالى لم تُستخدم إلا للتعبير عن أن
كل شيء يسجد لله, لذلك نجدها دائماً مسبوقةباسم (الله)! ليؤكد لنا الله
على أن السجود هو فقط لله وليس لأحدٍ غير الله, ونرى كيف تتدرج الآيات
الثلاث في تعداد المخلوقات:
1 ـ الآية الأولى لم تعدد من أنواع المخلوقات شيئاً.
2 ـ الآية الثانية ذكرت : الدواب ـ الملائكة (نوعين فقط).
3 ـ الآية الثالثة ذكرت : الشمس ـ القمر ـ النجوم ـالجبال ـ الشجر... (أنواع متعددة).
هل ينفع الندم؟
مشهد
من مشاهد جهنم يصوره لنا كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل، يقول أصحاب
النار (يا ليتنا)، فما هي أمنيات هؤلاء الكفار؟ ولكن ماذا تفيدهم هذه
الأماني؟ طبعاً لاشيء، لنستمع إلى هاتين الآيتين حيث تكررت كلمة (ليتنا)
لم ترد هذه الكلمة إلا في هاتين الآيتين:
1ـ (وَلَوْ تَرَىَ إِذْ
وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ
نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)
[الأنعام:6/27].
2ـ(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ
يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا)
[الأحزاب: 33/66].
التدرج اللغوي والمنطقي في الآيتين
1ـ الآية
الأولى بدأت بوقوفهم على النار (إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ)، ثم الآية
الثانية بعد أن دخلوا في النار أصحبَ تُقَلَّب وجوههم فيها (تُقَلَّبُ
وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) ، وهكذا التدرج من الوقوف خارج النار إلى
الدخول إليها.
2ـ في الآية الأولى بدؤوا بقولهم أول شيء (فَقَالُواْ
يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ)، أي إلى الدنيا، فهذا أول مطالبهم، ثم تمنوا ألاَّ
يكذبوا بآيات الله (وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا) ثم تمنوا بأن
يكونوا من المؤمنين(وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ): أي العودة إلى
الدنيا... ثم التصديق بآيات الله... ثم الإيمان.
3ـ ولكن في الآية
الثانية عندما دخلوا إلى النار وقُلِّبت وجوهُهم فيها، لم يعد لديهم أمل
بالعودة إلى الدنيا. وأدركوا مدى أهمية طاعة الله وطاعة رسوله فانتقلوا من
مرحلة الإيمان إلى مرحلة الطاعة لله ورسوله، لذلك يقولون عندها:
(يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا)
إذن نلخِّص هذا النظام البلاغي باختصار:
1ـ وقوفهم على النار.... ثم الدخول فيها لتُقَلَّب وجوههم في النار.
2
ـ وتأمل معي التدرج الزمني للآيتين: فلآية الأولي جاء فيها قولهم بصسغة
الماضي (فَقَالُواْ)، ولكي لا يظنّ أحد أن هذا القول وهذه الحسرة انتهت،
أو ستنتهي، يأتي قولهم في الآية الثانية على صيغة الاستمرار (يَقُولُونَ)،
ليبقى الندم مستمراً.
إن هذا النوع من الإعجاز الزمني لاستخدام كلمات القرآن، ألا يدل على أن هذا القرآن كتاب مُحكَم؟
ودائماً كلمة (ليتنا) سُبقت بكلمة (يا) ليظهر لنا الله تعالى المبالغة في التمنِّي للكفار وهم نار جهنم... ولكن هل ينفع الندم؟
لهم ما يشاءون
قلنا
في الفقرات السابقة أن الله وضع نظاماً رقمياً لسور القرآن لنستيقن أن هذا
القرآن من عند الله تعالى, وأننا نعجز عن الإتيان بمثله مهما حاولنا,
عندما نستيقن ذلك نقرُّ ونعترف بأن كل كلمة في كتاب الله تعالى هي حق...
وأن وعد الله حق, وأن الجنة حق, وأن النار حق. والقرآن يصور لنا حياة
المؤمن في الجنةبعبارة خاصة بأهل الجنة وقد تكررت 5 مرات في الآيات:
1ـ
(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ
لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ)
[النحل: 16/31].
2ـ (لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً) [الفرقان: 25/16].
3ـ (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ) [الزمر: 39/34].
4ـ
(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ
لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ)
[الشورى: 42/22].
5ـ (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق: 50/35].
ولنرى النظام البلاغي الفائق الدقة في تكرار هذه الكلمة الخاصة بأهل الجنة:
1ـ تحدثت الآية الأولى عن جزاء المتقين: جنات... لهم فيها ما يشاءون.
2ـ
أما في الآية الثانية فقد أكّد الله تعالى على أن هؤلاء المتقين خالدون في
الجنة التي لهم فيها ما يشاؤون, وأن وعد الله حق ولا يُخلف الله وعده
(كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً).
3ـ أما الآية الثالثة فقد
تحدثت عن المحسنين لأن التقوى يُؤدي إلى الإحسان, (والعكس صحيح) هؤلاء
المحسنون (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ), أكدت أيضاً أنهم
سيكونون بقرب ربهم, ومن كان قريباً من الله فماذا يطلب بعد ذلك؟
4ـ زادت الآية الرابعة تأكيد قرب هؤلاء من ربهم سبحانه وتعالى وأكدت أن هذه الصفات هي (ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ).
5ـ وأخيراً لكي لا نظُنُّ أن هذا كل شيء, ختم الله هذه الآيات الخمسة بكلمة (مزيد), فالعطاء مفتوح لا حدود له (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ).
بعد كل هذا ماذا يتمنَّى المؤمن؟ فسبحان الذي رتب ونظم هذه الكلمة عبر سور القرآن بهذا الشكل المذهل!!
البحار يوم القيامة
البحار
التي يُستخدم ماؤها لإخماد النار سوف تلتهب... تُسَجَّر... وتُفَجَّر، هذه
إحدى الحقائق عن يوم القيامة. ولنسأل هل يوجد بلغة الأرقام ما يصدق هذه
الحقيقة؟ نلجأ إلى كتاب الله ونبحث عن كلمة (البحار)، كم مرة تكررت في
كامل القرآن؟ الجواب بسيط، مرتين في سورتين:
1ـ (وَإِذَا الْبِحَارُسُجِّرَتْ) [التكوير: 81/6].
2ـ (وَإِذَا الْبِحَارُفُجِّرَتْ) [الانفطار: 82/3].
ولا
ننسى أن كلمة (البحار) في القرآن لم تستخدم إلا للحديث عن يوم القيامة.
ونلاحظ تسلسل الآيتين في القرآن يتناسب مع المفهوم العلمي: فأولاً يكون
الاشتعال ثم الانفجار وليس العكس، فجاء تسلسل الآيتين أولاً (سُجِّرت)
وثانياً (فُجِّرت)، وهذا مطابق للحقائق العلمية الحديثة.
الأرض يوم القيامة؟
هذه
الأرض التي نراها ثابتة ومستقرة سوف تهتزُّ وترجُف يوم القيامة. وهذه
حقيقة مستقبلية لاشك فيها، وما لغة الأرقام والنظام الرقمي إلا دليل قوي
جداً على صدق كلام الله تعالى. تكررت كلمة (تَرْجُف) مرتين بالضبط في كامل
القرآن في سورتين:
1ـ (يَوْمَ تَرْجُف ُالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً) [المزمل: 73/14].
2ـ (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) [النازعات: 79/6].
إذن
كلمة (تَرْجُفُ) تسبقها دائماً كلمة (يوم) ليؤكد لنا الله تعالى أن الأرض
ستهتز وترجف في ذلك اليوم ـ يوم القيامة. فجاء التسلسل الزمني مطابقاً
لتسلسل الآيتين: الآية الأولى تحدثت عن اهتزاز الأرض، ثم في الآية الثانية
تحدث الله عن اهتزاز الأرض المهتزة أصلاً، وهذا لزيادة الاهتزاز والارتجاف.
لنعد
إلى التساؤل التقليدي: مَن الذي وضع هذه الكلمة في هاتين السورتين؟ ومَن
الذي حدَّد استخدام هذه الكلمة بما يخصّ يوم القيامة وليس أي شيء آخر؟
أليس هو رب السماوات السبع ورب العرش العظيم؟
السراج المنير
في كتاب الله تعالى لكل كلمة خصوصيتها, ومن بين الكلمات الكثيرة كلمة (منيراً) التي تكررت مرتين في كامل القرآن في الآيتين:
1ـ (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراًمُّنِيراً) [الفرقان: 25/61].
2ـ (وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً) [الأحزاب: 33/46].
في
الآية الأولى الحديث عن القمر والشمس, أما الآية الثانية فتتحدث عن الرسول
, وكأن الله يريد أن يقول لنا إن الرسول الكريم هو بمثابة الشمس والقمر
للمخلوقات. فكما أن الإنسان لا يستطيع العيش من دون الشمس والقمر كذلك لا
يمكن للمؤمن أن يحيا من دون تعاليم وأخلاق ودعوة الرسول . وهذا الترتيب
للآيتين يثبت أن القرآن من عند الله.
البعد الزمني للكلمة القرآنية
لنتأمل هاتين الآيتين في صفة بني إسرائيل وكيف عبَّر عنهم البيان الإلهي:
1
ـ (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ
خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا
وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ
بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ)
[البقرة: 2/93].
2 ـ (مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ
عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ
مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ
وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا
لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ
بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء: 4/46].
إن
عبارة سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا لم ترد في القرآن كله إلا في هذين الموضعين
وكما نرى الحديث دائما على لسان بني إسرائيل، وكأن الله تعالى يريد أن
يقول لنا بأن هذه الكلمة لا تليق إلا بهؤلاء، فهي لم ترد على لسان أي من
البشر إلا بني إسرائيل!
هذه الحقيقة نكتشفها اليوم لنعلم حقيقة هؤلاء
اليهود الذين حرفوا كلام الله، لذلك جاءت كلمة (وَعَصَيْنَا) لتعبر
تعبيراً دقيقاً عن مضمون هؤلاء. وقد لاحظتُ شيئاً عجيباً في هاتين الآيتين:
الآية
الأولى جاءت بصيغة الماضي قَالُواْ ، فهذا يدل على ماضيهم وتاريخهم في
المعصية. ولكي لا يظن أحد أن هذا الماضي انتهى جاءت الآية الثانية بصيغة
الاستمراروَيَقُولُونَ للدلالة على حاضرهم ومستقبلهم في معصية أوامر الله
تعالى، فهم في حالة عصيان مستمر.
لم يكتفوا بعصيانهم بل أغلقوا قلوبهم
وغلفوها بغلاف من الجحود والكفر، ويأتي البيان القرآني ليصف قلوب هؤلاء
على لسانهم، ولنستمع إلى هاتين الآيتين:
1 ـ (وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْف ٌبَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ) [البقرة: 2/88].
2
ـ (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ
وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْف
ٌبَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ
قَلِيلاً) [النساء: 4/155].
وهنا من جديد نجد أن عبارة قُلُوبُنَا
غُلْفٌ لم ترد في القرآن كله إلا في هذين الموضعين، وهذا يثبت أن كلمات
القرآن تُستخدم بدقة متناهية فكلمة غُلْفٌ هي كلمة خاصة ببني إسرائيل بل
لا تليق هذه الكلمة إلا بهم. ولكن هنالك شيء أكثر إدهاشاً.
1 ـ
فــالآيــة الأولـى جـــاءت علـى صيغــة المـــاضـي وَقَالُواْ لتخبرنا عن
ماضي هؤلاء وحقيقة قلوبهم المظلمة، ثم جاءت الآية الثانية بصيغة الاستمرار
وَقَوْلِهِمْ لتؤكد حاضرهم ومستقبلهم أيضاً، وهذا التدرج الزمني كثير في
القرآن، فتسلسل الآيات والسور يراعي هذه الناحية لذلك يمكن القول بأن
القرآن يحوي من الإعجازات ما لا يتصوره عقل: لغوياً وتاريخياً وعلمياً
وفلسفياً وتشريعياً ورقمياً، ألا نظن أننا أمام منظومة إعجازية متكاملة في
هذا الق
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه
مجموعة من الفتوحات التي منّ الله بها علي في إعجاز القرآن الكريم
البياني، وفكرة هذا البحث تقوم على أن كل كلمة من كلمات القرآن تتكرر في
القرآن كله بنظام بديع متناسق ومُحكم. والأمثلة الآتية التي سنراها تؤكد
هذه الحقيقة.
هذا التناسق العجيب يبرهن على استحالة الإتيان بمثل هذا
القرآن الذي قال الله عنه: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ
عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ
وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الإسراء: 17/88).
كما
يبرهن على أن القرآن لو كان كلام بشر لما رأينا فيه مثل هذه التناسقات
والتدرجات اللغوية والبيانية، وهذا ما أمرنا الله تعالى أن نتدبره فقال:
(أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ
اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) (النساء: 4/82).
فكرة عن التناسق البياني
يمكن شرح فكرة النظام البياني لسور القرآن, من خلال المثال الآتي:
يعلمنا
الله تعالى أن نتوكل عليه فهو يكفي وهو حسبُنا, نستمع إلى هذا الأمر
الإلهي: حَسْبِيَ اللَّهُ هذا النداء تكرر في كامل القرآن في سورتين,
لنبحث عن كلمة (حَسْبِيَ) في القرآن:
1ـ (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ
حَسْبِيَ اللّه ُلا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ
رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة: 9/129].
2ـ (وَلَئِن سَأَلْتَهُم
مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ
أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ
بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ
هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّه ُعَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ
الْمُتَوَكِّلُونَ) [الزمر: 39/38].
إذن كلمة (حَسْبِيَ) دائماً
ترافقها كلمة (اللَّهُ) تعالى, أي (حَسْبِيَ اللَّهُ) وهل يوجد غير الله
لنلتجئ إليه وندعوَه؟ وكما نلاحظ كلتا الآيتين فيهما أمر آخر هو التوكل
على الله تعالى, وليؤكد لنا أن التوكل لا يكون إلا على الله. إذن ارتبط
الالتجاء إلى الله بالتوكل على الله! فمن أراد أن يلتجئ إلى الله تعالى
فعليه أن يتوكل على الله، فلا فائدة من التجاءٍ لا توكل معه.
كما أن
الآية الأولى جاء التوكل فيها على لسان النبي الكريم عليه صلوات الله
وسلامه، وهذا تشريفاً لمقامه ومنزلته عند الله عز وجل. بينما في الآية
الثانية جاء التوكل على لسان المؤمنين، وفي هذا إشارة لطيفة إلى ضرورة أن
يبدأ الانسان بنفسه ثم بالآخرين، وهذا أسلوب عظيم في التربية. ولذلك جاء
التدرج البياني للآيتين مبتدئاً بالرسول الأعظم الذي هو مثال ونموذج وقدوة
من أراد أن يتوكل على الله، ثم من بعده البشر هكذا:
1- عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ.
2- عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ.
التدرج العقائدي
لنتأمل
إحدى كلمات القرآن ونظام تكرارها بيانياً وعددياً. ونجري بحثاً عن كلمة
(حقَّت) في القرآن فنجد هذه الكلمة تكررت 5 مرات في كل القرآن في 4 سور:
1 ـ (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) [يونس: 15/33].
2ـ (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ) [يونس: 10/96].
3ـ
(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ
وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ
حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [النحل: 16/36].
4ـ (وَسِيقَ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا
فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ
رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ
لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ
الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [الزمر: 39/71].
5ـ (وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) [غافر: 40/6].
دائماً
استخدمت كلمة (حَقَّتْ) في القرآن للتعبير عن حقيقة واحدة وهي أن الذين
فسقوا وكفروا... لا يؤمنون... ضالون كافرون أصحاب النار. هذه الوحدة
اللغوية في كامل القرآن لتدلُّ على أن منزل القرآن واحد لا شريك له. وهذا
التناسق البياني هو دليل على أن القرآن كتاب لا يمكن تقليده أو الإتيان
ولو بجزء أو سورة منه.
وردت كلمة (حقَّت) في 5 آيات تدرجت كما يلي:
1ـ
في الآية الأولى الحديث عن (الذين فسقوا) فهؤلاء (حقّت عليهم كلمة ربك)،
وكما نعلم أول خطوة على طريق جهنم تبدأ بالخروج (الفسق) عن أمر الله تعالى.
2ـ ثم في الآية الثانية جاء الحديث عن الذين (لا يؤمنون) وهذه هي المرحلة الثانية بعد الفسق ـ عدم الإيمان.
3ـ في الآية الثالثة تحدث الله عن أؤلئك الذين (حقّ عليهم الضلالة)، إذن عدم الإيمان يؤدي إلى الضلال.
4ـ
في الآية الرابعة كان الحديث عن (الكافرين) فالضلال يؤدي إلى الكفر
والإشراك بالله تعالى لذلك جاءت العبارة: (حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ
عَلَى الْكَافِرِينَ).
5ـ وأخيراً ختم الله هذه الآيات الخمسة بقوله:
(أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) وهذه هي النتيجة المنطقية لكل من يفسُق...
لا يؤمن... يضلّ.. يكفر... فمصيره إلى النار فهي تكفيه.
وتأمل أخي الحبيب هذا التدرج اللغوي لرحلة تنتهي بالنار والعياذ بالله تعالى:
فسقوا................ بداية الرحلة هي الفسق عن أمر الله تعالى.
لا يؤمنون........... بعد الفسق يأتي عدم الإيمان بالله تعالى.
الضلالة............ ثم يأتي الضلال والضياع.
كَلِمَةُ الْعَذَابِ ........ وتبدأ رحلة العذاب.
أَصْحَابُ النَّارِ....... والنتيجة المؤلمة لهذه المراحل هي النار!
ولكن
يبقى التساؤل: ما هي كلمة الله التي حقَّت على هؤلاء الكافرين؟ ألا يستطيع
الله تعالى أن يهديَ الناس جميعاً؟ إنني أتصور أن الضلال والهدى... الكفر
والإيمان.. الجنة والنار... كل هذه المفاهيم وغيرها لها نظام محسوب بدقة,
فالله تعالى يعلم ما يصنع وهو يسيِّر الكون بما فيه, فهل يعجز عن هداية
مخلوق؟
ولكن حكمة الله ومشيئته وقضاءه أعلى من مستوى تفكيرنا... ولكن
يمكنني أن أقول إن النظام الكوني والبشري ونظام الخلق والنظام القرآني
وغيرها لا يمكن أن تكون إلا بهذا الشكل الذي نراه, وغير هذه الصيغة لنظام
الخلق ستؤدي إلى خلل في الكون.
هكذا مشيئة الله...
قبل أن يخلق الله
الكون اختار الصيغة الأنسب للضلال والهدى، واقتضت مشيئة الله أن ينقسم
البشر بين مؤمن وكافر، لو شاء لهدى الناس جميعاً, ولو شاء لعذبهم
جميعاً... إنه يفعل ما يريد هو وليس نحن... لنتخيَّل حكمة الله في خلقه
نستعرض 3 آيات من القرآن حيث تكررت كلمة (نَشَأْ) لنرى التدرج البلاغي
والرقمي لتكرار هذه الكلمة عبر سور القرآن:
1ـ (إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) [الشعراء: 26/4].
2
ـ (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ
نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً
لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ) [سبأ: 34/9].
3 ـ (وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ) [يس: 36/43].
نظام الكلمات لغوياً
كلمة
(نَشَأْ) هي كلمة خاصة بالله تعالى، لم ترد إلا وقبلها (إنْ) وبعدها كلمة
تخصُّ الله وقدرته ومشيئته ليبيِّن لنا الله تعالى أن المشيئة كلها لله
وحده، وليس لنا نحن البشر من الأمر شيء.
1ـ بدأ الله تعالى الأولى
بالحديث عن الهدى فهو قادر على أن ينزل على هؤلاء المكذبين آية (معجزة) من
السماء فيجبرهم على الخضوع والإيمان قسراً, ولكن عدالة الله تعالى اقتضت
أن يعطيَهم حرية الاختيار لكي لا يظلم أحداً يوم القيامة.
2ـ ثم أتت
الآية الثانية بالتهديد بأن الله قادر على أن يخسف بهم الأرض أو يسقط
عليهم قطعاً ملتهبة من السماء ولكن رحمتُه تقتضي إمهالهم ليوم لا ريب فيه
حيث لا ينفعهم الندم.
3ـ وخُتمت هذه الآيات الثلاث بأن الله لو شاء لأغرقهم فلا منقذَ لهم غير الله تعالى.
نرى التدرج عبر الآيات الثلاثة:
من السماء (نُنَزِّلْ)...
إلى الأرض (نَخْسِفْ)...
إلى أعماق البحار (نُغْرِقْهُمْ)...
فهل نحن أمام برنامج بلاغي لكل كلمة من كلمات القرآن؟ إذن تنوعت أنواع العذاب :
الإحراق بأجسام ملتهبة من السماء.
ثم الخسف في الأرض .
ثم الإغراق في ظلمات البحار.
كلُّ شيء... يسبِّح بحمدِه
كيف
لا يسبح كل شيء بحمد الله تعالى وهو خالق كل شيء؟ الرعد يسبح بحمده... كل
شيء يسبح بحمده... يوم القيامة يدعونا الله فنستجيب بحمده... إنه الحي
الذي لايموت فسبِّح بحمده, لنبحث عن كلمة (بِحَمْدِهِ) التي نجدها مكررة 4
مرات في 3 سور من القرآن العظيم:
1ـ (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ
وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا
مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ)
[الرعد: 13/13].
2ـ (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ
وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ
وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً
غَفُوراً) [الإسراء: 17/44].
3ـ (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء: 17/52].
4ـ
(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ
وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً) [الفرقان: 25/58].
3 سور هي: الرعد 13ـ الإسراء 17ـ الفرقان 25, تكررت فيها كلمة (بِحَمْدِهِ).
النظام البلاغي
تنظيم
كلمات وآيات وسور القرآن وترتيبها لا يقتصر على دقة الكلمات والعبارات، بل
هنالك نظام بلاغي لتدرج هذه الكلمات عبر سور القرآن. ففي المثال السابق
نجد النظام التالي:
1ـ عرَّفَنا الله تعالى كيف يسبِّحُ الرعد بحمده والملائكة لأن هذه المخلوقات تمتثل أمر الله وتخافه ولا تعصيه، فهل نَعتَبِر؟
2ـ ثم قرر في الآية الثانية أن كل شيء يسبح بحمد الله تعالى... وللأسف كثير من الناس غافلون عن ذكر الله ولقائه وعذابه.
3ـ
ثم انتقلت الآية الثالثة لتتحدث عن المستقبل ـيوم القيامةـ عندما يبعثنا
الله بعد الموت فنستجيب بحمده, فإما إلى الجنة وإما إلى النار. وحتى نفوزَ
بالجنة.
4ـ تأتي الآية الرابعة بالأمر الإلهي (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ)،
ليعلمنا كيف نسبح ونمجِّد وننزِّه الله تعالى لنفوز برحمة الله ونعيمه
ومغفرته, إذن بعد 3 آيات تُقرِّر أن كل شيء يسبح بحمده تعالى... فهل تمتثل
أيها الإنسان أمر الله وتسبِّحه وتمجِّده؟ لذلك جاءت الآية الرابعة
لتأمرنا بالتسبيح لله تعالى.
كل شيء يسجد لله
إذا كان كل شيء يسبح
بحمد الله تعالى تعظيماً له. فهل تستكبر مخلوقات الله عدا الإنسان عن
السجود لخالقها؟ القرآن يخبرنا أن كل شيء في الوجود يسجد لله تعالى خوفاً
وتواضعاً وتذللاً لله تعالى , وعلى الرغم من ذلك يأبى كثير من الناس
الامتثال لأوامر خالقهم ورازقهم وممهلهم...
كلمة (يَسجُدُ) تكررت في كامل القرآن 3 مرات بالضبط في 3 سور :
1 ـ (وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) [الرعد : 13/15].
2
ـ (وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن
دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ) [النحل : 16/49].
3
ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن
فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ
وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ
عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ
اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) [ الحج :22/18].
هكذا عظمة كتاب الله تعالى... تتراءى أمامنا البلاغة الفائقة تتدرج من حيث المعنى :
1 ـ بدأت الآية الأولى بتقرير أن كل من في السماوات والأرض يسجد لله طوعاً وكرهاً , ليدلَّنا على أن الأمر لله وليس لمخلوقاته .
2 ـ في الآية الثانية تحدث الله تعالى عن الدواب التي نظنها لا تعقل ولا تسمع, ولكنها تسجد لله تعالى والملائكة أيضاً يسجدون لله .
3
ـ وأخيراً تحدثت الآية الثالثة والأخيرة أن كل من في السماوات ومن في
الأرض يسجد لله وعدَّد بعض مخلوقات الله: الشمس ـ القمر ـ النجوم ـ الجبال
ـ الشجر ـ الدواب..., ونلاحظ في هذه الآية كيف انتقل الله تعالى من صيغة
الإثبات إلى صيغة الاستفهام (أَلَمْ تَرَ) أي بعد كل هذه الآيات ألم يحنِ
الوقت لترى وتوقن أن كل شيء يسجد لله؟
من خلال الآيات الثلاث نلاحظ أن
كلمة (يَسْجُدُ) هي كلمة خاصة بالله تعالى لم تُستخدم إلا للتعبير عن أن
كل شيء يسجد لله, لذلك نجدها دائماً مسبوقةباسم (الله)! ليؤكد لنا الله
على أن السجود هو فقط لله وليس لأحدٍ غير الله, ونرى كيف تتدرج الآيات
الثلاث في تعداد المخلوقات:
1 ـ الآية الأولى لم تعدد من أنواع المخلوقات شيئاً.
2 ـ الآية الثانية ذكرت : الدواب ـ الملائكة (نوعين فقط).
3 ـ الآية الثالثة ذكرت : الشمس ـ القمر ـ النجوم ـالجبال ـ الشجر... (أنواع متعددة).
هل ينفع الندم؟
مشهد
من مشاهد جهنم يصوره لنا كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل، يقول أصحاب
النار (يا ليتنا)، فما هي أمنيات هؤلاء الكفار؟ ولكن ماذا تفيدهم هذه
الأماني؟ طبعاً لاشيء، لنستمع إلى هاتين الآيتين حيث تكررت كلمة (ليتنا)
لم ترد هذه الكلمة إلا في هاتين الآيتين:
1ـ (وَلَوْ تَرَىَ إِذْ
وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ
نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)
[الأنعام:6/27].
2ـ(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ
يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا)
[الأحزاب: 33/66].
التدرج اللغوي والمنطقي في الآيتين
1ـ الآية
الأولى بدأت بوقوفهم على النار (إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ)، ثم الآية
الثانية بعد أن دخلوا في النار أصحبَ تُقَلَّب وجوههم فيها (تُقَلَّبُ
وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) ، وهكذا التدرج من الوقوف خارج النار إلى
الدخول إليها.
2ـ في الآية الأولى بدؤوا بقولهم أول شيء (فَقَالُواْ
يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ)، أي إلى الدنيا، فهذا أول مطالبهم، ثم تمنوا ألاَّ
يكذبوا بآيات الله (وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا) ثم تمنوا بأن
يكونوا من المؤمنين(وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ): أي العودة إلى
الدنيا... ثم التصديق بآيات الله... ثم الإيمان.
3ـ ولكن في الآية
الثانية عندما دخلوا إلى النار وقُلِّبت وجوهُهم فيها، لم يعد لديهم أمل
بالعودة إلى الدنيا. وأدركوا مدى أهمية طاعة الله وطاعة رسوله فانتقلوا من
مرحلة الإيمان إلى مرحلة الطاعة لله ورسوله، لذلك يقولون عندها:
(يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا)
إذن نلخِّص هذا النظام البلاغي باختصار:
1ـ وقوفهم على النار.... ثم الدخول فيها لتُقَلَّب وجوههم في النار.
2
ـ وتأمل معي التدرج الزمني للآيتين: فلآية الأولي جاء فيها قولهم بصسغة
الماضي (فَقَالُواْ)، ولكي لا يظنّ أحد أن هذا القول وهذه الحسرة انتهت،
أو ستنتهي، يأتي قولهم في الآية الثانية على صيغة الاستمرار (يَقُولُونَ)،
ليبقى الندم مستمراً.
إن هذا النوع من الإعجاز الزمني لاستخدام كلمات القرآن، ألا يدل على أن هذا القرآن كتاب مُحكَم؟
ودائماً كلمة (ليتنا) سُبقت بكلمة (يا) ليظهر لنا الله تعالى المبالغة في التمنِّي للكفار وهم نار جهنم... ولكن هل ينفع الندم؟
لهم ما يشاءون
قلنا
في الفقرات السابقة أن الله وضع نظاماً رقمياً لسور القرآن لنستيقن أن هذا
القرآن من عند الله تعالى, وأننا نعجز عن الإتيان بمثله مهما حاولنا,
عندما نستيقن ذلك نقرُّ ونعترف بأن كل كلمة في كتاب الله تعالى هي حق...
وأن وعد الله حق, وأن الجنة حق, وأن النار حق. والقرآن يصور لنا حياة
المؤمن في الجنةبعبارة خاصة بأهل الجنة وقد تكررت 5 مرات في الآيات:
1ـ
(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ
لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ)
[النحل: 16/31].
2ـ (لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً) [الفرقان: 25/16].
3ـ (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ) [الزمر: 39/34].
4ـ
(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ
لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ)
[الشورى: 42/22].
5ـ (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق: 50/35].
ولنرى النظام البلاغي الفائق الدقة في تكرار هذه الكلمة الخاصة بأهل الجنة:
1ـ تحدثت الآية الأولى عن جزاء المتقين: جنات... لهم فيها ما يشاءون.
2ـ
أما في الآية الثانية فقد أكّد الله تعالى على أن هؤلاء المتقين خالدون في
الجنة التي لهم فيها ما يشاؤون, وأن وعد الله حق ولا يُخلف الله وعده
(كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً).
3ـ أما الآية الثالثة فقد
تحدثت عن المحسنين لأن التقوى يُؤدي إلى الإحسان, (والعكس صحيح) هؤلاء
المحسنون (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ), أكدت أيضاً أنهم
سيكونون بقرب ربهم, ومن كان قريباً من الله فماذا يطلب بعد ذلك؟
4ـ زادت الآية الرابعة تأكيد قرب هؤلاء من ربهم سبحانه وتعالى وأكدت أن هذه الصفات هي (ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ).
5ـ وأخيراً لكي لا نظُنُّ أن هذا كل شيء, ختم الله هذه الآيات الخمسة بكلمة (مزيد), فالعطاء مفتوح لا حدود له (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ).
بعد كل هذا ماذا يتمنَّى المؤمن؟ فسبحان الذي رتب ونظم هذه الكلمة عبر سور القرآن بهذا الشكل المذهل!!
البحار يوم القيامة
البحار
التي يُستخدم ماؤها لإخماد النار سوف تلتهب... تُسَجَّر... وتُفَجَّر، هذه
إحدى الحقائق عن يوم القيامة. ولنسأل هل يوجد بلغة الأرقام ما يصدق هذه
الحقيقة؟ نلجأ إلى كتاب الله ونبحث عن كلمة (البحار)، كم مرة تكررت في
كامل القرآن؟ الجواب بسيط، مرتين في سورتين:
1ـ (وَإِذَا الْبِحَارُسُجِّرَتْ) [التكوير: 81/6].
2ـ (وَإِذَا الْبِحَارُفُجِّرَتْ) [الانفطار: 82/3].
ولا
ننسى أن كلمة (البحار) في القرآن لم تستخدم إلا للحديث عن يوم القيامة.
ونلاحظ تسلسل الآيتين في القرآن يتناسب مع المفهوم العلمي: فأولاً يكون
الاشتعال ثم الانفجار وليس العكس، فجاء تسلسل الآيتين أولاً (سُجِّرت)
وثانياً (فُجِّرت)، وهذا مطابق للحقائق العلمية الحديثة.
الأرض يوم القيامة؟
هذه
الأرض التي نراها ثابتة ومستقرة سوف تهتزُّ وترجُف يوم القيامة. وهذه
حقيقة مستقبلية لاشك فيها، وما لغة الأرقام والنظام الرقمي إلا دليل قوي
جداً على صدق كلام الله تعالى. تكررت كلمة (تَرْجُف) مرتين بالضبط في كامل
القرآن في سورتين:
1ـ (يَوْمَ تَرْجُف ُالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً) [المزمل: 73/14].
2ـ (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) [النازعات: 79/6].
إذن
كلمة (تَرْجُفُ) تسبقها دائماً كلمة (يوم) ليؤكد لنا الله تعالى أن الأرض
ستهتز وترجف في ذلك اليوم ـ يوم القيامة. فجاء التسلسل الزمني مطابقاً
لتسلسل الآيتين: الآية الأولى تحدثت عن اهتزاز الأرض، ثم في الآية الثانية
تحدث الله عن اهتزاز الأرض المهتزة أصلاً، وهذا لزيادة الاهتزاز والارتجاف.
لنعد
إلى التساؤل التقليدي: مَن الذي وضع هذه الكلمة في هاتين السورتين؟ ومَن
الذي حدَّد استخدام هذه الكلمة بما يخصّ يوم القيامة وليس أي شيء آخر؟
أليس هو رب السماوات السبع ورب العرش العظيم؟
السراج المنير
في كتاب الله تعالى لكل كلمة خصوصيتها, ومن بين الكلمات الكثيرة كلمة (منيراً) التي تكررت مرتين في كامل القرآن في الآيتين:
1ـ (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراًمُّنِيراً) [الفرقان: 25/61].
2ـ (وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً) [الأحزاب: 33/46].
في
الآية الأولى الحديث عن القمر والشمس, أما الآية الثانية فتتحدث عن الرسول
, وكأن الله يريد أن يقول لنا إن الرسول الكريم هو بمثابة الشمس والقمر
للمخلوقات. فكما أن الإنسان لا يستطيع العيش من دون الشمس والقمر كذلك لا
يمكن للمؤمن أن يحيا من دون تعاليم وأخلاق ودعوة الرسول . وهذا الترتيب
للآيتين يثبت أن القرآن من عند الله.
البعد الزمني للكلمة القرآنية
لنتأمل هاتين الآيتين في صفة بني إسرائيل وكيف عبَّر عنهم البيان الإلهي:
1
ـ (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ
خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا
وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ
بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ)
[البقرة: 2/93].
2 ـ (مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ
عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ
مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ
وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا
لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ
بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء: 4/46].
إن
عبارة سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا لم ترد في القرآن كله إلا في هذين الموضعين
وكما نرى الحديث دائما على لسان بني إسرائيل، وكأن الله تعالى يريد أن
يقول لنا بأن هذه الكلمة لا تليق إلا بهؤلاء، فهي لم ترد على لسان أي من
البشر إلا بني إسرائيل!
هذه الحقيقة نكتشفها اليوم لنعلم حقيقة هؤلاء
اليهود الذين حرفوا كلام الله، لذلك جاءت كلمة (وَعَصَيْنَا) لتعبر
تعبيراً دقيقاً عن مضمون هؤلاء. وقد لاحظتُ شيئاً عجيباً في هاتين الآيتين:
الآية
الأولى جاءت بصيغة الماضي قَالُواْ ، فهذا يدل على ماضيهم وتاريخهم في
المعصية. ولكي لا يظن أحد أن هذا الماضي انتهى جاءت الآية الثانية بصيغة
الاستمراروَيَقُولُونَ للدلالة على حاضرهم ومستقبلهم في معصية أوامر الله
تعالى، فهم في حالة عصيان مستمر.
لم يكتفوا بعصيانهم بل أغلقوا قلوبهم
وغلفوها بغلاف من الجحود والكفر، ويأتي البيان القرآني ليصف قلوب هؤلاء
على لسانهم، ولنستمع إلى هاتين الآيتين:
1 ـ (وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْف ٌبَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ) [البقرة: 2/88].
2
ـ (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ
وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْف
ٌبَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ
قَلِيلاً) [النساء: 4/155].
وهنا من جديد نجد أن عبارة قُلُوبُنَا
غُلْفٌ لم ترد في القرآن كله إلا في هذين الموضعين، وهذا يثبت أن كلمات
القرآن تُستخدم بدقة متناهية فكلمة غُلْفٌ هي كلمة خاصة ببني إسرائيل بل
لا تليق هذه الكلمة إلا بهم. ولكن هنالك شيء أكثر إدهاشاً.
1 ـ
فــالآيــة الأولـى جـــاءت علـى صيغــة المـــاضـي وَقَالُواْ لتخبرنا عن
ماضي هؤلاء وحقيقة قلوبهم المظلمة، ثم جاءت الآية الثانية بصيغة الاستمرار
وَقَوْلِهِمْ لتؤكد حاضرهم ومستقبلهم أيضاً، وهذا التدرج الزمني كثير في
القرآن، فتسلسل الآيات والسور يراعي هذه الناحية لذلك يمكن القول بأن
القرآن يحوي من الإعجازات ما لا يتصوره عقل: لغوياً وتاريخياً وعلمياً
وفلسفياً وتشريعياً ورقمياً، ألا نظن أننا أمام منظومة إعجازية متكاملة في
هذا الق
- طريق التطوير
عدد المشاركات : 52
عدد النقاط : 52
تاريخ التسجيل : 22/02/2011
الموقع : http://kyawt.medecinmaghreb.com/
رد: التناسق البياني لكلمات القرآن الكريم
الثلاثاء فبراير 22, 2011 9:20 am
شكرآ
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى